في عام 1949 كان عمر عزيز 17 سنه وعمر جمال 16 سنه.
- ما تيجي نطلع رحله اليومين دول .
- نروح فين .
- نروح العريش .
- يا عم دي عاوزه تصاريح من سلاح الحدود ، ثم حنام فين ؟
- ننام فى خيمه على البحر.
ومن هنا بدأت رحله العريش عام 1949،اقنع جمال اخوه مصطفى 15 سنه وانضم رابع وخامس وانا،سته فتيان حول السابعة عشر ، فى المراحل النهائية من التعليم الثانوي. عزيز طول عمره حمار شغل وجمال شاطر فى الاداريات .نزل جمال وعزيز وكاله البلح،وفى منطقه بولاق بالقاهرة .واشتروا خيمه من بتوع الجيش وزنها بمهماتها لا يقل عن 80 كيلو واوتاد ومستلزمات الرحلة وفانوسين هواء وكانت هذه الاشياء تباع بلا قيمه تقريبا، حيث تركتها جيوش الحلفاء بعد انتهاء الحرب .
قام جمال باستخراج تصاريح السفر بطلب وصوره لكل فرد، وامام المهنة كتب طالب، وامام الغرض من الذهاب ،كتب للزيارة. لا اذكر كيف اقنعوا الاهل بالغياب لمده خمسه عشر يوما دون توفر اي وسيله اتصال فى ذلك الوقت !! واى واحد من هؤلاء الفتيه لم ينم خارج منزله ليله واحده ، ولا عند خالته .
عزيز وجمال وضعوا الخطة ، هنحتاج اكل ايه ؟ عيش.. ام محمد الغسالة تخبزه وتشققه وتنشفه او تقدده، طبعا كل الاكل اللى حيتاخد نواشف . ايامها ماكنوش اخترعوا المعلبات ، ما كانش فيه فى بر مصر كلها حاجه اسمها علبه حلاوة طحينيه . البقال عنده كتله حلاوه لا يقل وزنها عن 15 كيلو يقطع منها ويبيع . العسل الاسود يباع بالزلعة ومش معقول حتتشال زلعه فى القطار. تم وضع العسل فى زجاجه كبيره اسمها جمدانه تشيل عشره كيلو تقريبا . عزيز وجمال كانوا شطار جدا . قعدوا حوالى 20 يوم يحضروا ويجهزوا للرحلة .عيله عزيز ساكنه فى اول دور فى منزل بجنينه ، حيث جرت البروفة الجنرال لنصب الخيمة فى وجود كل اعضاء الرحلة. حجره عزيز لها باب على السلم ، وزياره الاصدقاء لا تزعج احدا ،وليس له اخوه صبيان.
المهم عزيز وجمال خططوا وحضروا كل حاجه والباقي فى التراوه ، مسلمين نفسهم ، لا يعرفوا يعنى ايه خيمه ولا يعنى ايه معسكر. كل اللى سمعوه من جمال وعزيز تناموا فى خيمه على الارض كل واحد يجيب بطانية ومايوه وخمسه جنيه ، وبس . وتحدد يوم الانطلاق وساعة الصفر ، العاشرة مساء من غرفه عزيز بالعباسية.
كل شئ تمام ،تذاكر القطر محجوزة واستمارة شحن بصحبه الراكب 400 كيلو ،وموعد قيام القطار السابعة صباحا. ايامها لم تكن السيارات قد اخترعت بعد ، فلا يملك احد من الاهل سياره ،وطبقا للخطة الموضوعة حضرت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عربه كارو4 wheel بحصان نشط وتم تحميل 1000 كيلو تقريبا مهمات ،وتحركت العربة فى الثالثة صباحا والفتيه حولها .
تبعد العريش عن القاهرة 344 كيلو متر وهى بلد قديمه على حدود مصر الشرقية جنوب رفح المصرية ب40 كيلو ورفح الفلسطينية ب40 كيلو وعشره سنتي (حيث تم اقامه صرح مصر العميق المسمى الجدار الفولاذي) ، ويربطها بالقاهرة خط حديدي كان يصل الى باريس،وتوقف عند العريش بعد الاحتلال الصهيوني للساحل الفلسطيني فى العام 1948، ثم توقف نهائيا بعد الاحتلال الصهيوني لشبه جزيرة سيناء فى العام 1967،فالاحتلال فى الحقيقة موجه بالدرجة الاولى لهذا الخط الحديدي. وصل القطار بالفتيه محطه العريش السابعة مساء، والشمس تغرب .
تعلو محطه العريش عن البحر حوالى 70 متر،وتم انزال المهمات بسرعه ونشاط على الشاطئ تحت النخيل الذى يبعد عن مياه البحر 20مترتقريبا ،سته شباب زي الورد يكلوا الزلط ، وكلوه فعلا , تمت العملية بسرعه قياسيه وده كان خطا استراتيجي فادح ،الدنيا بقت كحل كانت الايام الاخيرة من شهر ذو القعدة، لا قمر ولا اي ضوء ولا على يعد 10 كيلو. وحصل ارتباك ولا اللى جرى فى 67 .ماحدش شايف اخوه، ينتص فيه يعرفه من صوته. فين الفانوس؟ فين الجاز؟ فين الكبريت؟ فين الوتد؟ فين الخيمه؟ كله تائه، كله على كله فعلا، وماتعرفش لما تقابله تقوله ،لانك مش شايفه. ساعتين بدون اي تقدم الا اشعال فانوس هواء اضاءته لمبه سهاري 5 واط.
- الصباح رباح.... احنا بقلنا 40 ساعة ما نمناش ....فطسنا.
وتساقط الفتيه واحد ورا التانى، وإستمر عزيز وجمال الذى كان يتمتع دائما بهدوء وابتسامه عذبه . وعندما اشرقت الشمس استيقظ الشباب ولقوا الشاي سخن باللبن المركز والافطار عدس بجبه والحلو شعريه محمرة بالسكر. وكلوا وجريوا على البحر يخدوا غطس، ودخل جمال وعزيز للنوم ساعة.
لا توجد مياه عذبه فى المكان مجرد بئر مياهه مش حادقه، الغريب انك تلاقيها دلعه لا تصلح بالذات لعمل الشاى. يبقى مطلوب 12لتر مياه يوميا ويوجد قربه تتسع ل30 لتر، واقرب مكان يمكن ان تحصل منه على مياه عذبه مدينه العريش التي تبعد 3 كيلو عن البحر
-اتنين يروحوا العريش يجيبوا ميه لحد القطر ما يوصل بالليل نبقى ناخد منه ميه
-طيب وغسيل المواعين؟
-الرمل وميه البحر تنظف اي حاجه
-والحموم؟
-انتوا مش عايشين على البحر وطول النهار فى الميه؟ يبقى حموم ايه بعد كده؟ ده حتى يبقى افتراء ، مية البحر مفيدة.
خمسه عشر يوما لم تلمس اي مياه عذبه جسد اي من هؤلاء الفتية
فى العام 1949 كان قد مر على النكبة عام وبضعه شهور،وزار معسكر الفتيه صبى اسمه وليد ،13 سنه تقريبا ،وحكى كيف هرب مع نساء واطفال الاسرة فى قارب شراعي من قريه على الساحل الفلسطينى، وانه كان فى مدرسه فرنساوى، وانه رغم مرور اكثر من سنه على اللجوء فى معسكر غوث اللاجئين التابع للامم المتحدة، الا انها ايام ويرجعوا بيوتهم، امه معاها المفتاح ، وعاش وليد تقريبا مع الفتيه ويروّح بالليل ،طول النهار قاعد يحكى مع عزيز.
هناك فرق بين العوم والسباحة ،الشباب كانوا قبل الفطار يسبحوا وباقى اليوم يعوموا ،ماينفعش تتكلم وانت بتسبح، لكن ممكن تغنى ، وتلعب كوره والكلب الحيران وانت عايم . وليد كان يجيد السباحة ولكن مايعرفش يعوم ،عزيز علمه العوم، وكانوا بيقعدوا ساعات عايمين يحكّوا.
الmenu كان فى الفطار: عدس بجبه او بيض والحلو: شعريه محمره بالسكر او سخينه .السخينه عبارة عن فتّه عيش فى مغلي حلبه حصى ومحلاه بالعسل الاسود وطشه سمن بلدي على الوش. مش اي حد يقدر على الاكلة دي ،يجب ان يكون قوى البنية وخالي من الأمراض ،وان كان غير ذلك فمن الواجب ان يودّع اهله اولا. العسل الاسود مفيد ، كله حديد واقتصادى جدا كل ما تاكل منه يريد ،الشباب بدأ الرحله ومعاهم عشره كيلو عسل وانتهوا معاهم اكثر من العشرة كيلو ، تركوها فى العريش . كانوا يلاحظون ان العسل يزداد لدرجه فورانه من الجمدانه،اكتشفوافى اليوم الاخيرالسبب ، حين لم يقدر اي منهم الاقتراب منه ، حيث تحو ل من حراره الشمس الى خل ومشروع كحول.
الغذاء كان على التوالي:
- فتة عدس بالخل والثوم
- نصف فرخه بلدي للفرد ومعها بطاطس
- خمس سمانات للفرد ،تلاثه مطبوخه بالفريك والصلصة وجوز محمر
- سمكه نصف كيلو مقليه وارز بالزيت
معلومات :الفرخة البلدي وزن صافى كيلو تقريبا 20 قرشا ، جوز السمان 3 قرو ش، رطل السمك من البحر مباشره 30 قرشا .الرطل الفلسطيني المتعامل به فى العريش يساوى6 ارطال مصري والرطل المصري نصف كيلو تقريبا .ممكن تقديرتكلفة الفرد بما فيها شراء المهمات والسفر والاكل وصور الرحله، رجّع جمال لكل فرد نصف جنيه من الخمسة جنيه.
خمسه عشر يوما نوم بعد المغرب على الارض، على بعد 20 متر من البحر، واستيقاظ مع الشروق ،وطول اليوم فى الشمس والبحر،واكل خمس نجوم ،فيه جمال اكتر من كده؟
حين قرأ عزيز رائعه رضوى عاشور "الطنطوريه" ،وحين وصل فى الرواية الى رقيه وهى تحكى :
" ........المس المفتاح، أرفع الحبل عن رقبتي.اضعه حول رقبه الصغيرة. اقبل جبينها. أعطيها للرجل الطويل فيعيدها عبر السلك الى حسن، فتاخذها امها منه . قلت بصوت عالي: مفتاح دارنا يا حسن. هديتى الى رقيه الصغيرة"
اجهش عزيز فى البكاء وارتفع نحيبه. ترى هل تذكر صديقة وليد بعد ستين سنه ومفتاح بيته الذي تحتفظ به امه؟ ام ترى كان يبكى هزيمته وهزائم جيله ؟ام أن الرواية أهاجت الذكريات ؟
هناك 7 تعليقات:
كأني كنت عايش هناك. يا رب بركة الأيام دي ترجع تاني
مش ممكن يا عمو... مش ممكن... جميلة اوي اوي اوي
هو كل شوية كدة تكتب حاجة أروع من اللي قبلها؟
عزيز ده واحد جريء جداً و قائد محترم.. مش عارفة ازاي مبقاش رئيس جمهورية!
و اول مرة اعرف ان كان فيه خط سكة حديد بين افريقيا و آسيا و أوروبا...ده أكيد السفر فيه كان فسحة لوحده
و معظم أنواع الأكل دي عمري ما سمعت عنها قبل النهاردة... بس أكيد كانت حلوة أوي... أصل عزيز مايحبش يعمل غير الحاجات الحلوة :)))
بس عزيز ماتهزمش لا هو ولا جيله... على الاقل كانوا بيحاولوا... الهزيمة في الاستسلام
المتعة بنت المعرفة، وأنت تجعلنا نعرف ونستمتع بما نقرأ في نفس الوقت. مساحة من التاريخ الشخصي تقودنا تلقائياً إلى مساحة من "التاريخ"!
حدوثة وليد الفلسطيني تبدو خيطاً في حكايتك ثم تصبح نسيجاً كاملاً
سيدمن قراءتك الكثيرون يا أحلى خليل ويا أحلى عزيز ويا أحلى صديق
راااااااااااائعة بجد
عدد من الاصدقاء سأل ايه الفرق بين العوم والسباحه؟
اولا الشباب كانوا بيسبحوا قبل الفطار مسافات على الاقل 3 كيلو موازى للشاطئ وبسرعه،واستيل .
بعدكده طول النهار يخشوا داخل البحر مسافة كبيره ويعدوا يدردشوا ويغنوالمده ساعتين تلاته،العوم زيى التمشيه او الوقوف ما يتعبش ،السباحه زى الجرى
فيه ناس تعرف تسبح وماتعرفس تعوم،ما يقدرش يقعد عايم 3ساعات مثلا ، لكن ممكن يسبح 200 متر،ويكسب سباق ويحقق رقم .
فعلاً رائعة،حكاء ممتاز،تلقائية وعفوية وحيوية وصدق في الحكي تشد من يقرأ حتي آخركلمة
الصديق العزيز أشكرك على التدوينة
أعتزم عمل ملف عن سيناء المكان / الانسان
لو لم يكن هناك مانع اشلركنا بهذه التدوينة
تفاصيل الملف على الرابط
http://alanany.wordpress.com/2010/07/28/rights-and-the-sinai-where/
إرسال تعليق