الجمعة، 19 نوفمبر 2010

جاموسة




           يمتلك ابى قطعة ارض زراعية فى بلدة قريبة من القاهرة على بعد 7 كيلو من قليوب ، يزرع نصفها ويؤجر الباقي للفلاحين ….الفلاحون كانوا مسمبنها الوسية .. وأبى كان مسميها العزبة .  يذهب كل يوم جمعة ليشق على الزراعة و يخدني معاه . فى سنة 40 كان عمرى 8 سنين  .نتحرك من المنزل فى العباسية 7 صباحا ونركب الترام ،ونغير الى ترام اخر نصل به الى شبرا، ثم اوتوبيس بائس الى كفر رماده  على طريق  زراعية قليوب شبين القناطر  .. نوصل الساعة 10 تقريبا، 3 ساعات فى مسافة لاتزيد عن 20 كيلو ،ولكن الدنيا كانت رايقة وغير مزدحمة ،  تركب الترام تقعد ، تركب الاوتوبيس تقعد ، تمشى فى الشارع كأنك ماشى لوحدك تتنزه .


        الوسية او العزبة تبعد عن السكة الزراعية اللي الاوتوبيس نزلنا فيها حوالى 2 كيلو، توصلها بالمشى  من  بين الغيطان على سكة لا يزيد عرضها عن متر ونصف وأحيانا اقل ،  على فواصل الزراعات بجانب المساقي . تقابلك فلاحة سحبه جاموسة لابد ان تفسح لها الطريق بالنزول فى الزراعة  - ليس احتراما لها ولكن للجاموسة - وحين تمر الفلاحة تغطى وجهها بالطرحة وتقول  العواف .  ا لفلاحة طبعا حافية القدمين.. فمن الاسهل المشي فى مثل هذه الطرق حافي القدمين،   وكم انخلعت الحزمة ودخل التراب والحصى فى الشراب وتعذبت .  فى هذا الوقت كنت تجد فى القاهرة نفسها كثيرا من البشر يمشون  حفاة،  يركبون الترام او الاوتوبيس حفاة !!!!!…المهم المشوار من الزراعية للوسية يأخذ ساعة تقريبا .
     الوسية او العزبة عبارة عن عدة غرف متلاصقة يعيش فيها فلاحي الوسية .. الفلاح يسمى المطرح اللى بيعيش فية قاعة مع انة لايزيد عن 10متر مربع . ومخزن كبير نسبيا وزريبة ..كل المباني مبنية بالطوب اللبن ،  ومسقوفة بجريد النخل لا يوجد كهرباء او مياة  او صرف صحى ..اسرتي وانا  عاشنا  فى هذا المكان لمدة شهرين ، حين كثرت  غارات طائرات  الالمان  على سكنات الجيش الانجليزي بالعباسية فى صيف 1942 .
       بجانب  هذه الاطلال الرمادية توجد  ساقية خشبية عتيقة ..واللي ما سمعش الساقية وهى بتور.. وتنعى مش ممكن حيفهم غنوة محمد عبد الوهاب :
سبع سواقي بتنعى لم طفولي نار  ..الساقية وهى بتدور، فعلا بتنعى بصوت حزين حزن الفلاحين  !!
بالاضافة الى الساقية  طرمبة يدوية وشجرة ظليلة ، يعيش  تحتها عم حمدان  ابو رواش .الذى يبلغ من العمر90 سنة، ويقال   انه قبل ما يعجز كان حرامي كبير ..وله سطوة وهيبة فى المنطقة.   ابويا جابه وهو فى هذه السن الكبيرة ، ولا يكاد يقدر على الجركة ، وشغله غفير على العزبة  ، وعاش تحت الشجرة .


         كنت اسال نفسي .. اية اللي ممكن يتسرق من الفلاحين ؟ المسكن لا يوجد به اي اثاث او اي شي ممكن سرقته….  الموجود ممكن لاي  انسان حملة تحت باطه. الفلاحون لا يملكون ملابس الا اللي  لبسينها …طيب الحرامي حيسرق اية ويمشى بيه مسافات طويلة . يسرق البهائم . يخش على الزريبة فى الليالى الحالكة  ويسحب جاموسة او بقرة ، واذا كانوا اكتر من راجل ، كل راجل يسحب بهيمة ..تاني يوم الصبح تكتشف السريقة ..والعالم إلى اتسرق منها البهائم  يعرفوا بهايمهم عند مين  … يتفق على مبلغ ما ،  يدفع  …يسمى" الحلوان "وترجع البهائم . وطبعا  عزبة خليل بك  ما يجيش حد جنبها اكراما للغفير عم حمدان  ابو رواش.. عم الناس دي كلها .


      عم حمدان ابو رواش   يعيش تحت السجرة الظليلة - الفلاحون يقلبون احيانا  الشين سين"السجرة.. السمس" -  وإمامه  راكبة نار وطاسة صغيرة وهون خشب وكنكة وفنجال واحد يشرب فيه الجميع . وقلة متعلقة فى السجرة …اول ما نوصل يحاول ان يقوم  للسلام


- خليك زي ماتت والله ما انت قايم..


       ويعطيه ابى كيس  البن الاخضر وباكو الدخان . عم حمدان كان بيشرب بايب  ..بس مش شكل البايب  اللي نعرفها.. اكبر واطول كثيرا ..يحشوها بالدخان ويضع عليها بصة نار من الراكية ويبدا فى التدخين . حفنة من البن الاخضر تنقى وتحمص فى الطاسة ، واحد الموجودين يقوم يصحنها فى الهون ، ثم توضع فى البكرج وتترك لتغلى فترة . وتفوح رائحة البن الجميلة،  ثم يوزها عم حمدان  فى الفنجان الوحيد طبقا لبروتوكول معين.. الاهم فالأقل اهمية ..عم سليمان وعلى يمنية خليل بك ، وعلى يساره ناظر العزبة.. وهكذا حتى تكتمل الدائرة .ويطوف الفنجان الوحيد برشفة  واحدة لكل الجالسين .ولاحظت ان  عم حمدان  يخص والدي برشفتين !!



      فى هذه الابام  ، حضرت  عملية بيع جاموسة ..البائع فلاح فقير والشاري فلاح افقر منه ، من ساكنى الوسية الذين يزرع كل منهم  تلت فدان بالإيجار.


البائع – والله لولا العوزة انا ماكنت افكر  ابيعها ابدا ..يهون عليا  ابيع عيل من عيالي ولا ابيعهاش  !!
الشاري – وهى يعنى حتروح فين.... ما هي قاعدة قدامك فى الزريبة زي ما هي .


ناظر العزبة – بلا كهن يا واد    خمسة وعشرون جنيه يرضوك ؟؟
البائع -  حرام عليك يا عم الحاج طه  انت كده بتظلمنا..
الشاري – انت حيت على قوى يابا الحاج…. الجاموسة ماتسواش المبلغ ده كله!!!
واحد من هنا وواحد من هنا... زود جنيه عشان خاطرى، وجنيه من هنا وجنبه  من هنا…. وعشان ربنا يباركلك فيها…. يوصل السعر الى 30 جنية .
ناظر العزبة.... نقرا الفاتحة..


        تمر فترة  سكون  فى انتظار موافقة البائع على قراءة الفاتحة .
-  لا يا رجالة ده يبقى ظلم ..... انتم جيتو على بالشكل ده 
ويبدا الموال من نقطة الصفر اقصد من السعر 30 جنية ..ودور قهوة يدور .
-………….
-…………


الشاري - ادفع 32جنية وده اخر كلام عندي ..
ويبدأ الفصال والتراجى والخواطر ويصل السعر الى 35 جنية !!
- نقرى الفاتحة بقى
وتمر فترة سكون اطول من السابقة – دي ظلومة والله  وانتم ما ترضوهاليش  يا رجالة ... لا انا مش موافق على البيعة ….انا انزل بيها السوق وزي ما تجيب  تجيب ..
وبهم بالقيام لترك القعدة ولكن يمسك فيه الاخرون ..


  وينتقل الحديث  الى موضوع اخر

-  إلا هتلر بجد مسلم ...واسمه محمد هتلر؟؟
-  يا راجل انت بتخرف بتقول ايه... انت اش عرفك بهلتر ولا موسولينى ؟؟
-….
- انا حدفع فى الجاموسة 36 جنية والفلوس اهة عايز تشلهم شبلهم مش عايز قول يفتح الله ...اية قولك ؟؟؟


ويبدأ الفصال من جديد والرجوات والتدخلات وعشان خاطرى وربنا يعوض عليك ويصل السعر  الى 40 جنية ونقرى الفاتحة ...ولحظة سكون اطول من اللي فاتت  ولا تتم البيعة بهذا السعر.. ويتكرر هذا السيناريو عند 45 و50 و55 وتقرأ الفاتحة …وتتم الصفقة وتعتمد عندما يصل السعر الى 80 جنية !!...ويكون قد مضى اربعة ساعات فى كلام وفصال  ورجوات ..وانا مش موافق ..وانا قايم مروح ..واعمل خاطر للرجالة ..الخ..  ويتعمل  فيها 3 ادوار قهوة . وتتم الصفقة وتقرأالفاتحة .


ونحن عائدون فى اخر النهار يقول لى  ابى : 


-  الجاموسة ثمنها 80 جنية ..البائع عارف انة حيبعها ب80 جنية ..والشارى عارف انة حيدفع 80 جنه... وكل اللي قاعدين عارفين من الاول  ان السعر  اللي حتتباع بيه  الجاموسة  80 جنيه ، بس دي عالم  …مستنييه الزرع يكبر .. وقاعدين يتسلوا ..دى هي التسلية الوحيدة عندهم .!!!



   لمجرد  العلم ...انا اشتريت  امبارح من غير فصال  كيلو لحمة بتلو بالعضم من بيت الكلاوي ب 93جنيه....!!!!



هناك تعليق واحد:

Mustafa Rizq يقول...

أيامك السعادة

سعيد إني بدأت يومي هنا، مش علشان أنا عشت بعد كفر رمادة بمحطتين 26 سنة، ولا علشان فكرتني بقعدة السوق و (حط إيدك في إيدي) أو (الفاتحة الله يباركلك بقى يا أبو علي) وأنا مستني البيعة تتم علشان فك قيد الجاموسة، ولا حتى علشان أنا بكره القاهرة وانت أختني مكان بحبه بشكل ما، سعيد بس علشان اليوم بدأ بكلامك الطيب.

سلامي