الأحد، 8 أغسطس 2010

عزيز كاردان



      فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية والإنتاج الوفير كانت العلاقة بين الصانع والمستهلك مباشره وحميمه الى حد ما . يعنى فى مصر وحتى السبعينات من القرن الماضى ، وقبل الانفتاح السداح مداح ، لا يمكن لاى انسان ان يقتنى بدله جاهزة يشتريها من محل ملابس . كان فيه جاهز ولكن شي بائس للغاية  . كان  الانسان يذهب الى الخياط (الترزى ) ياخد مقاساته بالمتر (المازوره)وبسجلها فى دفتر . وبعد ذلك بروفة اولى ثم بروفة تانيه ثم الاستلام .كان يشترى القماش من مكان ويحمله الى الترزى لتفصيله وخياطته . ومع تقدم المجتمع  اصبح هناك ما يسمى” تاجر وترزى “، تجد عنده بعض الاقمشه تختار منها ما تشاء  ويفصله على مقاسك . حتى القمصان كان كل واحد عنه القمصانجى بتاعه . كذلك الفساتين كل عائله تتعامل مع خياطه معينه ، بل ان بعض السيدات كانت الخياطه تحضر للمنزل صباحا  ، ويصبح القماش فستانا فى المساء ، . واى بيت من بيوت الطبقه الوسطى كان فيه ماكينة خياطه سنجر  ، لان ماكنش فيه ماركه تانيه .وكانت دى الاله  الميكانيكيه الوحيدة فى البيت هى ومطحنه البن .

        صديقى عزيز  ، لأنه حشرى،  وبيحب يتفرج على اى صنايعى بيعمل اى حاجه ،ويدعى دائما انه يعرف يعمل نفس الشئ  ، واحيانا يتقنزح ويقول اعرف اعمل احس منه ، فقد كان يتقن فى سن صغيره التعامل مع ماكينة الخياطه وتشغيلها ابرع من اخواته البنات .ولأنه كان حشرى فكان احيانا يتفرج على ست اولجا الخياطه لما تيجى تخيط الفساتين فى البيت للعائلة.
       صديقى عزيز  انيق يعرف يلبس  ورياضى ايضا، بيلعب اسكواش . فى الستينات وأوائل السبعينات كان لبس اى رياضه ، ما عدا التنس طبعا ،  صناعه محليه  ، عياره عن تى شرت فوق، وشئ اسمه ready  تحت ،شى قريب من الانروير البوكسر تيل ابيض وله جيب خلفى. يقوم عم عزيز يطلع فى دماغه انه يفصل شورتات بنفسه بجيوب زى البنطلونات بس ماسكه شويه، لان البنطلونات ايامها كانت واسعة زى البراشوت. هو الوحيد اللى بيلعب بشورت زى لعيبه التنس اللى بيلبسوا المستورد ( السنييه )،بل عمل ماركه  لنفسه  ، اشتراها من الموسكى عبارة عن طائر البنجوين يلصق بالمكواة . أحد اصدقائه خفيفى الظل سماه” عزيز كاردان “على وزن  “بيير كاردان “ نجم عالم الموضة الشهير .
     قلنا ان عرير كان يهتم بأناقته بعنى عايق شويتين  ، كان بيفصل بدله عند الترزى اللى يفصل عنده عبد الحليم حافظ فى اول شارع ابراهيم باشا (الجمهوريه ). ولأنه بيحب الصنيعيه وبيتكلم معاهم كتير ،يمكن عشان يلقط الصنعه .عرف من الترزى ان عبد الحليم دراعه اطول من مقاسات الانسان العادى ب7 سنتى.وممكن تلاحظ ذلك فى فيلم ابى فوق الشجره ، فى اغنيه دقوا الشماسى ، تلاحظ  وهو بمرجح ذرعته  انها وصله لركبه .ومش ممكن تيجى سيره حليم من غير ما الواحد يداعب خياله
    يبقى القمر تاليتنا
   والليل بحر مهاودتا
  والنسمة اللى تخذنا
  ترجع شايله الحكاية
الله دى بقت حكاية  ، ودخلت كتب الاغانى كمان …….مع فيس وليلى ،  وحسن ونعيمه  ، وروميو وجوليت ، وياسين وبهية ، وشفيقة ومتولي ، لا دا متولى اخوها اللى قتلها ، طيب وهيبة ومحمد رشدى ويا ما كلوا برتقال .محمد رشدى مش قريب احمد رشدى الوزير اللى حصل فى عهده انتفاضه الامن المركز ى وحرقوا كباريهات شارع الهرم ، ونزل الجيش بدباباته وطائراته…….والطيران رغم فوته الرهيبة لا يمكن ان يحسم المعركة ، وعلى ذكر الطيران لا يمكن ان ننسى صاحب الطلعه  الجوية الاولى معبود النساء احمد سالم ………
- يا خليل الموضوع حفرشح منك ومش حتعرف تلمه  ……انت رغاى ليه  ؟ دانت معروف عنك انك بتكلم بالتيلة ……ارجع للموضوع

         المهم عزيز قرر يفصل بدّله بنفسه  راح  للترزى المشهور  واختار قطعتين قماش وقاله اعملهم بدلتين بس مش مره واحده ، واحده ورا التانيه ، يعنى قعد يعمل فيهم اكتر من شهرين ، وعزيز مش مستعجل، واستدعى ذلك اكثر من 12 زيارة لمحل الترزى ، اعتبرهم 12حصه حضرها  عزيز  عند واحد من اشهر الخياطين فى مصر .  لقط فيها  الصنعه  وخباياها .

           ابسط شئ فى هذه الصنعه التفصيل . الباترون الجاهز من اى مجله تفصيل مثل يوردا او غيرها يحل مشكله التفصيل . اهم شئ اتقان التركيب ونظافة الخياطه . اشهر ترزى ما يضيعش وقته فى خياطه البنطلون  ، يفصله ويبعنه لخياط البنطلونات . اصعب شئ فى الجاكتة تركيب الكم،  ودى لها خياط مختص  .  عمنا عزيز اتقن التلاته ،  ومن سنه 1980 عزيز يقوم بخياطه بدّله بنفسه ،  وعمره ما لبس ما يسمى بالبوشرت . دائما بيلبس  بدّل فى الصيف  من اقمشه تيل كاكى مثلا او كتان ابيض او جينز ، لا يجرؤ اى انسان بالذهاب بها لاى ترزى ليدفع 150 جنيه  تفصيل – بأسعار ذلك الوقت - فى قماش لا يساوى 15 جنيه . كانوا زمايله يداعبوه :
      - يا عم مين قدك ، انت ما بتكلفش غير المكوه..

           نعمان عاشور الكاتب المسرحى الرائع صور الانهيار الاقتصادى للطيفه الوسطى ممثله فى بطل روايته عيله الدوغرى  الاسطى سيد الدوغرى الترزى (توفيق الدقن) الاخ الاكبر فى عيله الدوغرى، حيث تراجعت المهته امام انتاج المصانع، وشكواه لزوجته (ناديه السبع )عن سوء الحال  وتفكيره فى بيع المحل :
- الترزى راحت عليه خلاص ،الصنعه ما بقتش تجيب همها
وشقيقه مصطفى  الدوغرى استاذ التاريخ (كمال حسين) الذى يعلق  على الاحداث بسخرية  وعمق ،وكابتن الكره حسن الدوغرى(عيد المنعم ابراهيم )اللى  الدنيا ماشيه معاه ، وقراره شراء حذاء للطواف ( شفيق نور الدين )خادم الاسرة العجوز اللى عمره ما انتعل شيئا في قدميه:
- ولا تكملها حافى احسن يا طواف
-اخص عليك يا حسن ، لا انا عايرها بنى
وزينب الدوغرى الاخت المسيطرة (ملك الجمل )على زوجها الموظف الصغير الاقل كسبا( احمد الجزيرى) ،والأخت الصغرى عيشة الدوغرى (رجاء حسين ) وخطيبها (عبد الرحمن ابو زهره) واقتناعهم  ببيع دبل الخطوبه لأنها شكليات لا ضرورة لها . كل ذلك فى قالب كوميدى ما تبطلش ضحك طول عرض المسر حبه، وتقعد بعدها تتناقش ايام فى القضايا التى اثارها. مسرح بحق ،متعه ما بعدها متعه وفى نفس الوقت يخاطب العقل ويطرح قضايا المجتمع.
     نعمان عاشور من احسن من صور  الانهيار الاقتصادى للطبقة الوسطى ،فى مسرحياته الناس اللى فوق و المغناطيس والناس اللى تحت وعيله الدوغرى وغيرها، فقد كان من اهم كتاب المسرح فى الستينات والسبعينات.

      انتهى عصر المنتج الصغير او فى طريقه الى الزوال ، ولم يعد له مكان فى المجتمع الرأسمالى . اندثرت  او فى طريقها للاندثار  فى مصر مهنة الترزى او ا لقمصاتجى المستقل . فقد اكتسح الانتاج الكبير صغار المنتجين وانتهت بذلك الى الابد العلاقة الحميمة بين المنتج والمستهلك ، وانسحقت فئة صغار الحرفين . فبعد ان كان انسانا  يملك عمله اصبح شغيلا فى مصنع وانضم الى الطبقه العامله ،وقد تراه الان فى اعتصام امام مجلس الشعب مطالبا بزيادة الاجور .


        والدور جاى على طبقه الفلاحين اللى مش حيقدروا يدفعوا تمن الميه اللى بتروى اراضيهم ،و اللى حتفرضها الحكومة بحجة ترشيد الاستهلاك ، وبعد ألازمه المفتعله  لدول حوض النيل ،التى تخدم  بالدرجة الاولى مصالح الرأسمالية العالميه  والمصرية . الفلاحين مش حيقدروا  على تكاليف تطوير  اساليب الرى الى الاساليب الحديثه ، ولأنهم فقراء حيبيعوا الارض ،ويتحولوا الى شغيله ، ويسود الانتاج الزراعى الكبير  ، وتنسحق طبقه الفلاحين وتندثر كما اندثرت طائفة اصلاح وابور الجاز ومبيض النحاس.

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

هنا نجد المعلومة والمتعة ودعوة الماضي لزيارة الحاضر ليرى ونرى تبدّل الأحوال. يبدو لي أن المقالة جزءان فالجزء الخاص بنعمان عاشور ومسرح الستينات يبدو منفصلاً بعض الشيء عما قبله ويستحق مقالا خاصا نطالبك به. قد أكون مخطئاً
ما رأيك؟

احمد خليل يقول...

شكرا على التعليق
حاولت يا صديقى ان اربط بعض القضايا الاقتصاديه بتجربه شخصيه لاحظ " يا خليل الموضوع حفرشح منك ومش حتعرف تلمه"ده فعلا اللى كنت حاسس بما تقول.شكرا مرة اخرى